من الأخطاء القاتلة في منظومتنا التربوية، أن الاهتمام ينصب في شهادة البكالوريا على الناجحين فقط، فتقام لهم الاحتفالات وتعطى لهم الهدايا والجوائز وتنصب لهم الخيم والأفراح لأيام وأسابيع.. وهذا طبعا واجب على الجميع لمكافأة المجتهدين وتشجيعهم والأخذ بيدهم إلى بر الأمان.
.. ولكن في المقابل لا أحد من المسؤولين ولا فعاليات المجتمع المدني يهتم للراسبين في هذه الشهادة وتعدادهم للأسف الشديد يقارب تعداد الناجحين، خاصة وأنهم يعيشون في وضعيات نفسية صعبة بالنظر إلى سنهم اليافع الذي لا يستحمل الضغط النفسي الرهيب الذي تحدثه البكالوريا في الحياة اليومية للجزائريين فضلا عن الممتحنين.
الجميع يتحدث عن الناجحين ومعدلاتهم ومستقبلهم الدراسي والتخصصات التي تصلح وتتوافق مع نتائجهم.. تقام لهم الرحلات داخل وخارج الوطن.. يكرمهم رئيس البلدية ورئيس الدائرة والوالي والوزير وحتى رئيس الجمهورية، تنشر لهم التهاني في الصحف وتذاع في الإذاعات والقنوات وفي بعض الولايات تتواصل الأعراس لأسابيع تذبح فيها الذبائح ويزف الناجحون إلى جامعاتهم..
كل ذلك واجب علنيا جميعا ولا أحد يمكن أن يكتم أفراح الناجحين وعائلاتهم، لكن الذي يغفل عنه الجميع وفي مقدمتهم السلطات العليا للبلد وفعاليات المجتمع المدني أنه يوجد في المقابل أكثر من 200 ألف مترشح لم يسعفهم الحظ في النجاح، أكاد أجزم أن داخل كل واحد منهم قنبلة "نفسية" موقوتة، إن لم نفلح في تفكيكها سوف تنفجر في وجوهنا بطريقة عنيفة، فهؤلاء لم ينجحوا، لأنهم لم يجتهدوا، أو لأن الظروف لم تكن في صفهم، لكن من حقهم أن يكلمهم أحد بطريقة ما ليخفف عنهم وطأة الهزيمة ومرارة السقوط..
كم أزعجني أن وزارة التربية أقصت هؤلاء حتى في إستلام كشوف نقاطهم وحولتهم على الانترنت، بينما يستلم الناجحون كشوفهم بالترحاب والزغاريد.
كان الأجدر بنا جميعا وفي مقدمتنا وزارة التربية أن تستقبل هؤلاء الراسبين جميعا ليوضع كل واحد منهم في صورة نتائجه أين أجاد أو أين قصّر ولماذا خسر وماذا يمكنه أن يفعل.. كان الأجدر أن تقام لهؤلاء الراسبين ملتقيات تمتص غضبهم وإحباطهم وتشحنهم بإرادة جديدة لمواجهة الحياة.
كان الأجدر، أن يتم تصنيف الراسبين ومستوياتهم لتوجيههم الوجهة الصحيحة، إما لإعادة الامتحان أو للتكوين والتمهين أو للحياة العملية إن كان هناك فرصة.. المهم أن يجد الراسب من يهتم به ويوجهه وينصحه ويلم تركيزه المشتت، خاصة وهذا الراسب يرى الأفراح والأعراس تحيط بزملائه الناجحين من كل جانب..
نقول هذا الكلام، لأن الأمر يتعلق بمراهقين يافعين، من السهل جدا أن تنحرف بهم أبسط أزمة يمرون بها، خاصة ونحن في بيئة موبوءة بالآفات والانحرافات..
فكم يسهل على الارهاب أن يمتص من هؤلاء المئات ويرميهم إلى المجهول، لأن أي فاشل في الحياة إذا إفترضنا أن هؤلاء فاشلين، من السهل جدا إستغلال حقنه على وضعه ورفضه لمحيطه وشحنه بالكراهية والانتقام، فينتقم بعضهم من أنفسهم بالمخدرات وينتقم البعض الآخر من مجتمعهم بالانزلاق إلى الجريمة.. فيصبحون جميعا وقودا لاهبا لانحراف خطير.
ولأن السلطات لا يمكن التعويل عليها في هكذا تحديات، فإن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق العائلات للاهتمام بأبنائها الراسبين ومرافقتهم نفسيا للخروج من هذه الأزمة التي يمكن لهم أن يتجاوزوها بعبقرية.. فكم من راسب في البكالوريا أعادها فظفر بمعدل أدخله إلى عوالم العبقرية والتألق.. وكم من ناجح فيها بمعدل بسيط تاه في نفق التخصصات الوهمية التي تنخر جامعاتنا.. وهو ما يجعلنا نقول للراسبين جميعا ربما خسرتم جولة، لكنكم أصبحتم أكثر تحصينا لاجتياز معارك حياتكم.
منقول