بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه ربّ العالمين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظيم
وصلَّي الله علی محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين من الآن إلي قيام يوم الدين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَي' وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـ'لِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَلاَ فِي الاْرْضِ وَلآأَصْغَرُ مِن ذَ ' لِكَ وَلآأَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَـ'بٍ مُّبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ أُولَـ'´نءِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْ فِي´ ءَايَـ'تِنَا مُعَـ'جِزِينَ أُولَـ'´نءِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ. [1]
إنّ استدلال المادّيّين والدهريّين علی عدم وجود المعاد لا يرتكز علی مسألة علميّة، ولا يتجاوز مجرّد الاستبعاد كما سلف.
إنّ قولهم هو: كيف يحيي الله الموتي ويخلع علیهم رداء الوجود بعد العدم؟
إذ إنّ هذا الامر أمر بديع لا يوافق العقول ـ بزعمهم ـ والشبهات التي يثيرونها غير مبتنية علی مقدّمات علميّة وبراهين منطقيّة.
الرجوع الي الفهرس
المسائل العلميّة ينبغي أن تعتمد علی مقدّمات يقينيّة
ذلك أنّ من الجليّ والمبرهن علیه في علم المنطق والميزان أنّ مقدّمات الاستنتاج في المسائل اليقينيّة للعلوم يجب أن تكون يقينيّة أيضاً.
ولكي يمكن للاءنسان أن يحصل علی نتيجة يقينيّة من مقدّمات الاستدلال، فإنّ جميع المقدّمات الواردة في تلك المسألة ينبغي أن تكون يقينيّة. وحينئذٍ فإنّ ذلك الاستدلال يُسمّي القياس والبُرهان، وتُجعل نتيجته مبدأ ثابتاً يُستفاد منه ويستدلّ ويُستشهد به في العلوم، وتُبني سائر المسائل العلميّة علیه.
أمّا لو لم تكن مقدّمات مسألةٍ ما أو إحداها يقينيّة، بل كانت مبتنية علی أساس الخرص والتخمين من الظنّيّات والشكّيّات والوهميّات، فإنّ تلك النتيجة لن تصبح نتيجة البرهان والقياس.
وهكذا فإنّ المقدّمات التي يقيمها الطبيعيّون لاءثبات عدم وجود المعاد لا تتعدّي كونها نوعاً من المقدّمات التخيّليّة والشعريّة، لذا فإنّها ليست مسألة برهانيّة، بل مسألة شعريّة أو خطابيّة لا قيمة لها في العلوم.
إنّ القياس والبُرهان يجب أن يتألّف من إحدي المقدّمات اليقينيّة الستّ، وهي: الاوّليّات، المشاهدات، الفطريّات، التجربيّات، المتواترات والحدسيّات؛ وإلاّ فإنّ النتيجة ستكون تابعة لاخسّ المقدّمتين، وستكون بالمآل وهميّة أو ظنّيّة، ولن تجد لنفسها موضعاً في الكتب العلميّة.
وقد أُشير في القرآن الكريم إلي إنكار منكري المعاد بوصفه مسألة ظنّيّة:
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَ ' لِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ. [2]
الرجوع الي الفهرس
القرآن الكريم يُقيم وزناً لاتّباع اليقين دون غيره
كما يعدّ القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته اتّباع الإنسان منوطاً بالعلم واليقين فحسـب وينهي بقوّة عن اقتفاء الاُمور المشـكوكة والمظنونة، فيقول:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـ'´نءِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً. [3]
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. [4]
إنّ آذان أهل جهنّم وعيونهم وجلودهم تشهد علی أعمالهم، فيعترضون علی شهادة جلودهم فتجيبهم: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء. فيخاطبهم الله تعالي:
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ علیكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أَبْصَـ'رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ'كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَ ذَ ' لِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدب'كُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـ'سِرِينَ. [5]
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَهِ حَقُّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. [6]
وهو خطابٌ للكفّار الذين يذهبون يوم القيامة إلي جهنّم.
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَهَ علیمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ. [7]
إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَهُ بِهَا مِن سُلْطَـ'نٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الاْنفُسُ. [8]
وكان الخطاب في هذه الآية للمشركين الذين كانوا يعبدون اللاّت والعُزّي وأشباههما من الاصنام.
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَـ'´نءِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَي' * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الْظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. [9]
والعجيب أنّ الله سبحانه أمر بعد هذه الآية بالإعراض تماماً عن الذين تصوّروا أنّ غاية علمهم هي الوصول إلي المادّيّات وإشباع الغرائز الجنسيّة والعيش الدنيويّ، فأعرضوا بذلك عن ذكر الله سبحانه.
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّي' عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا * ذَ ' لِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي'. [10]
والخلاصة أنّ الآيات القرآنيّة تُجمِع علی لزوم العلم واليقين، وعلی عدم جواز اتّباع الظنّ والحدس، سواءً في العقيدة أم في الافكار، أو في العمل والسلوك.
إنّ المادّيّين والدهريّين لا يمتلكون دليلاً علی عدم الإمكان الذاتيّ للقيامة أو عدم إمكان وقوعها، فالذريعة التي يتوسّلون بها في الكتب والمباحاث لا تعدو الاستبعاد ونسج المطالب الشعريّة والخطابيّة. وبشكلٍ عامّ فإنّهم قد تخطّوا بنظر ساذج جميع هذه الآيات الانفسيّة والآفاقيّة الإلهيّة التي ملات السماء والارض، فلم يعتبروا بها ولم يتفكّروا فيها. فلم تكن هذه الآيات العريضة الطويلة التي طبقت الارجاء ـ عندهم ـ إلاّ آلة للّهو واللعب.
وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ علیهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. [11]
كم من آية في السماوات والارض لتوحيد الله وأسمائه الحُسني وصفاته العلیا وآيات القيامة ونظائرها من الموت والحياة والخلع واللبس وغيرها يمرّون علیها فيضربون عنها صفحاً!
الرجوع الي الفهرس
لا أثر للمعجزات ما لم يعدّ الناس أنفسهم في اسرارهم وذواتهم
ومن هنا فإنّ أساس قبول الآيات القرآنيّة ونيل الحقائق والاُمور الواقعيّة يتمثّل في حالة إذعان القلب وتسليمه، وعدم التجبّر والاستكبار الباطنيّ والتحصّن والتخندق مقابل الحقّ تعالي، فهذا الانقياد وسلامة القلب يجعلان الادلّة والبراهين العلميّة والآيات الوجدانيّة الإلهيّة تستقرّ علی أرضيّة الذهن والنفس؛ وإلاّ فإنّ الادلّة والبراهين الفلسفيّة والآيات الإلهيّة جميعها ستكون بلا نتيجة وأثر للشخص المعاند والمنكر.
وعلی هذا الاساس، وكما ورد في سورة الاحقاف، فإنّه حين نفر من طائفة الجنّ إلي رسول الإسلام واستمعوا للقرآن، فإنّهم أذعنوا واعترفوا وأسلموا، وما أن عادوا إلي قومهم حتّي دعوهم إلي قرآنٍ جاء بعد كتاب موسي مصدّقاً للكتب السماويّة الاُخري وهادياً إلي الحقّ والصراط المستقيم، وقالوا لهم: أجيبوا داعي الله هذا، وصدِّقوا برسالة رسولالله هذه وآمنوا بها. ذلك أنّ من لا يُجب دعوته من صميم قلبه فلن يكون له في الارض وليّ ولا نصير، وسيلحقه الذلّ والصغار وينغمس في الضلال المبين.
يَـ'قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الاْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ و مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُولَـ'´نءِكَ فِي ضَلَـ'لٍ مُّبِينٍ. [12]
ثمّ إنّ أُولئك النفر المسلمين من الجنّ يقولون لقومهم عن المعاد ويوم القيامة:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـ'دِرٍ علی'´ أَن يُحْـِـيَ الْمَوْتَي' بَلَي'´ إِنَّهُ و علی' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [13]
وقد جاء في آيات قرآنيّة كريمة جمّة أنّ كثيراً من الاُمم السابقة لمتؤمن بالرغم من مشاهدة البرهان والمعجزة اللذين عرضهما أنبياؤهم، وأنّ حسّ الغرور والعُجب لديهم كان مانعاً من قبول الحقّ والإذعان لواقع الامر.
وهكذا كان الامر بالنسبة إلي الرسول الاكرم صلّي الله علیه وآله، فإنّ أشراف قريش وأعيانهم لم يؤمنوا بسبب تكبّرهم ونخوتهم مع أنـّهم كانوا أُناسـاً أذكياء ذوي فطنة يُعدّون من دُهـاة العرب. ولقد كانـوا يرون من رسولالله الآيات البيّنات والمعجزات الواضحة غير القابلة للتأويل، إلاّ أنّ الاستكبار والتعالي ـ مع ذلك كلّه ـ كان يُغلق أمامهم الطريق إلي الحقّ، لانّ نفوسهم لم تكن تسمح لهم أن يخضعوا لمحمّد صلّي الله علیه وآله الذي كان بلا ثروة ولا سلطان ولا جاه ولا اعتبار دنيويّ، فالدهاء والكياسة لاينفعان في هذا الموضع، والذكاء والفكر المتين لا طائل فيهما هنا؛ بل إنّ ما يلزم المرء هنا هو الطهارة والنزاهة وصفاء القلب. فإن كان القلب مدنّساً قذراً، جعل آلافاً من الافكار المتينة الصائبة هباءً منثوراً وأسلمها إلي طوفان الفناء، وصيّرها أشبه بالحشائش المتقصّفة والتراب الذي تذروه الريح، وأحرق ما ينبته حقل الذهن واستأصله كما تحرق النار العشب فتجعله هشيماً، ولفّق للمعجزات والكرامات تأويلات وتفسيرات باطلة غيرمقبولة، وسخر بالعلم واليقين والبرهان وهزأ بها. ولقام في النهاية بجمع شرذمة من الناس حوله بألف حيلة ومكر وخداع للعوامّ، وفعل كما فعل ذلك الماكر المحتال الذي رسم علی الارض صورة الحيّة، ثمّ اتّهم بالجهل ذلك العالم والمفكّر الذي كان قد كتب اسم الحيّة علی الارض. وسعي في إفساد سوق ذلك العالم وترويج سوقه هو، وذلك في مجتمع جاهل يتخبّط في الظلمة والجهالة. ولقام بكتمان دعوة الحقّ في زوايا الخفاء، ونشر أباطيله وأراجيفه الفكريّة تلك وجعلها هي الحاكمة.
الرجوع الي الفهرس
قصّة الوليد بن المغيرة وإنكاره رسولَ الله مع قيام الدليل والبرهان
لقد كان الوليد بن المغيرة من شيوخ العرب وكبارهم، وكان يُشار إليه بالبنان في الفطنة والذكاء، وكانت له ثروة ومكنة وأموال وافرة في بسيط مكّة وجزيرة العرب؛ [14] لكنّه مع ذلك حين سمع آيات من القرآن تلاها رسولالله نفسه، فقد غرق في التفكير والتأمّل، ولم يجد مفرّاً في النهاية إلاّ أن يعدّه سحراً مُبيناً يؤثر وقال: هذا الكلام سحر، وهذا الرجل ساحر؛ سحرٌ قويٌّ مبين وساحر ماهر لا يُغلب.
وقد ورد في تفسير علیّ بن إبراهيم القمّيّ في سورة المدّثّر أنّ الآيات الواردة في التهديد في قوله تعالي: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله صلّي الله علیه وآله، وكان رسولالله صلّي الله علیه وآله يقعد في الحجرة ] أي حجر إسماعيل [ ويقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلي الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد الشمس ما هذا الذي يقول محمّد، أشعرٌ هو أم كهانة أم خطب؟! فقال: دعوني أسمع كلامه. فدنا من رسول الله صلّي الله علیه وآله، فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر ولكنّه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه. فقال: اتلُ علیَّ منه شيئاً. فقرأ رسول الله صلّي الله علیه وآله حم´ السجدة، فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا (يا محمّد ـ أعني قريشاً).
فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـ'عِقَةً مِّثْلَ صَـ'عِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. قال: فاقشعرّ الوليد وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ومرّ إلي بيته ولم يرجع إلي قريش من ذلك، فمشوا إلي أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم! إنّ أبا عبد الشمس صبا إلي دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل فقال له: يا عمّ! نكستَ رؤوسنا وفضحتنا وأشمتَّ بنا عدوَّنا وصبوتَ إلي دين محمّد.
فقال: ما صبوتُ إلي دينه ولكنّي سمعتُ منه كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود. فقال له أبو جهل: أخطيبٌ هو؟ قال: لا، إنّ الخطب كلام متّصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضاً.
قال: أفشعرٌ هو؟ قال: لا، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها، وما هو بشعر.
قال: فما هو؟ قال: دعني أفكّر فيه.
فلمّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلناه؟
قال: قولوا هو سحر فإنّه أخذ بقلوب الناس.
فأنزل الله علی رسوله في ذلك: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا؛ وإنّما سُمّي وحيداً لانـّه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، وعلیكم في جماعتكم سنة. وكان له مالٌ كثير وحدائق، وكان له عشر بنين بمكّة، وكان له عشر عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها، وتلك القنطار في ذلك الزمان. ويُقال إنّ القنطار جلد ثور مملوّ ذهباً. فأنزل الله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًاـ الآيات. [15]
وهذه الآيات التي نزلت بشأن الوليد في سورة المدّثر: السورة الرابعة والسبعين من القرآن الكريم هي عشرون آية، ابتداءً من الآية الحادية عشرة إلي الآية الثلاثين:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ و مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا*وَمَهَّدتُّ لَهُ و تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلآ إِنَّهُ و كَانَ لاِيَـ'تِنَا عَنِيدًا* سَأُرْهِقُهُ و صَعُودًا * (أيّ سآخذه بعنف وشدّة وأبتليه بالعبور من العقبات الضيّقة الصعبة العبور) إِنَّهُ و فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَـ'ذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـ'ذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَب'كَ مَا سَقَرُ* لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * علیهَا تِسْعَةَ عَشَرَ.
أي: أنـّه فكّر في آيات القرآن ثمّ قدّر علی أساس تفكيره، أي: أنـّه نظر في نظم القرآن والمعاني الواردة فيه من تقديم وتأخير، ووضع ورفع، لاستنتاج غرضه المقصود من التقدير، ثمّ أراد أن يستنتج شيئاً من تفكيره وتقديره بحيث يُرضي معاندي القرآن ومُنكريه، فقدّر قائلاً: أشِعرٌ هو، أم كهانة، أم أساطير الاوّلين وخرافات القدماء؟ أم هذيان وكلام لاطائل فيه؟ ثمّ استقرّ به التفكير علی أنـّه سحر من كلام البشر، وأنّ أثره المغناطيسيّ كأثر سحر السحرة الذي يؤثّر في النفوس فيفرّق بين المرء وزوجه، وبين الرجل وأهله وأبنائه، وعلی هذا المنوال فهو سحر يؤثّر فيالنفوس فيجذبها إلي معانيه ونكاته، إلاّ أنـّه سحرٌ قد أُثر.
يقول القرآن: لقد أجلي الوليد فكره وقدّر، فقُتل علی تقديره، ثمّ قُتل كيف قدّر؟ ثمّ إنّه نظر فتجهّم وجهه وعبس وتمثّلت في وجهه حينذاك ملامح الكُره والرفض جليّةً، ثمّ إنّه أعرض عن معاني القرآن تماماً، ونأي بجنبه عن حقائقه، وتجلّي استكباره وعُجبه للعيان، فقال: إن هذا القرآن إلاّ قول البشر، وليس هذا القرآن إلاّ سحر يؤثر.
يقول الله تعالي: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ.
أفتعلم يا رسول الله ما سقر؟ النار التي لا تذر أحداً، والتي تبتلع الجميع فلا تُبقي علی أحد، النار التي تلوّح بشرة الابدان وتحرقها، وهناك تسعة عشر ملك من ملائكة العذاب مأمورون بالمحافظة علیها.
وقد روي عن ابن عبّاس أنـّه لمّا نزلت: علیهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم أُمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة (يقصد رسولالله) يُخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم. أيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجلٍ منهم؟ فقال أبو الاسعد ابن أسيد بن كلدة الجمحيّ وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين. [16]
الرجوع الي الفهرس
ردّ منكري الله والمعاد علی أساس الاستكبار
وهكذا تحول روح التنمّر والتمرّد في البشر دون التسليم والانقياد للحقائق، وما لم يُعالج هذا الضعف، فإن إنكار المنكرين سيبقي علی حاله.
إنّ الوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب وأبا سفيان وأمثالهم لم يكونوا من العامّة، بل كانوا أُناساً مطّلعين مجرّبين خبروا الدنيا، وكانت لهم أسفارهم إلي إمبراطوريّتي فارس والروم، وكانوا من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة من رؤساء العرب وساستهم وفي طليعتهم ومن أصحاب الرأي فيهم، إلاّ أنّ التسليم لرسول الله ومتابعته وتفويضه صلوات الله علیه وآله الاُمور السياسيّة والاجتماعيّة والحكومة والولاية علی الناس؛ وهي من نتائج وفروع الإيمان بالله والتوحيد؛ لم يكن ليتّفق وينسجم مع روحيّاتهم الاستكباريّة.
وكان ذلك هو السبب في تمرّدهم وعدم انقيادهم، وشنّهم الحروب وتحريضهم الاحزاب والجماعات ضدّ رسول الله. وكانوا يقولون: لماذا يكون رسول الله من طائفة البشر؟ أي: أنـّه يجب أن يكون مَلَكاً ملكوتيّاً ليكون لائقاً وجديراً فنخضع ـ نحن البشر ـ لاوامره وحكومته الإلهيّة.
ولو شئتَ أن تروّض هذه الروح المستكبرة، وهذه النفس المغرورة بألف برهان ومنطق ومعجزة وآية لما أمكنك ذلك.
ولو كفّ رسول الله صلّي الله علیه وآله يده عن كلامه التوحيديّ، فعمل وفق آرائهم وأفكارهم، لسلّموا إليه جميعاً دون شكّ ولو لم يأتِ لهم بمعجزة واحدة.
ومادامت فيهم هذه الروح الاسـتكباريّة، فإنّهم لن يخضعـوا للحقّ ولنيسلّموا إليه، حتّي لو جاءهم رسول الله بمئات الاضعاف من المعجزات التي جاء بها من قبل. حتّي ولو شقّ لهم القمر والشمس كلّ يوم، وعبر أمامهم علی الماء والنار كلّ يوم، وأحيا الموتي وأَبرأ الاكمه والابرص.
ولقد جاء في شأن النبيّ عيسي ابن مريم أنّ قومه كانوا يحملون المعجزات التي أتاهم بها ـ ومنها إحياؤه الموتي ـ علی السحر.
وقد ذكر الله سبحانه ذلك في سورة المائدة:
إذْ قَالَ اللَهُ يَـ'عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي علیكَ وَعلی' وَ ' لِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَـ'بَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَ ' ب'ةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِيُ الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي' بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي´ إِسْرَ '´ ءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـ'تِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـ'ذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ. [17]
ونقرأ في سورة آل عمران أنّ الله سبحانه قال بعد أن بيّن هذه المعجزات جميعها عن عيسي علیه السلام علاوةً علی إخباره بما يأكله الناس وما يدّخرون في بيوتهم، وبعد أن أحسّ عيسي منهم الكفر وآمن به الحواريّون فقط:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَهُ وَاللَهُ خَيْرٌ الْمَـ'كِرِينَ. [18]
وحصيلة القول، فإنّ نسبة السحر والخداع إلي الانبياء لم تكن بالامر الجديد، إذ ابتلي الانبياء جميعهم بهذه الصعاب التي انبعثت كلّها من حسّ الطبع المتعالي المعبّر عنه في القرآن الكريم بالعلوّ والاستكبار.
لقد كان وجود رسول الله صلّي الله علیه وآله وحركاته وسكناته ومنطقة وسكوته معجزة. وهذا القرآن الذي في أيدينا اليوم، القرآن الذي نتلوه صباحاً ومساءً، هو نفس القرآن الذي كانوا يتخيّلونه في ذلك الزمان سحراً. فيعدّون رسول الله بسببه ساحراً؛ فأيّ آيةٍ فيه من السحر يا تري؟
هذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو أكبر وأعجب معجزة من معجزات الرسول الاكرم والانبياء السابقين كافّة من حيث دقائق المعاني ولطائف النكات، وإتقان القوانين والآداب والسنن، ومن حيث الحقائق العرفانيّة وبيان درجات توحيد الباري تعالي شأنه، وانطباق أخبار الانبياء السابقين وأُممهم علی متن الواقع وحقيقة الامر. وحقّاً فكلّما اتّسعت دائرة علومنا ومعارفنا، زاد إدراكنا بإعجاز هذه التحفة الإلهيّة الفريدة، معجزة رسولالله الباقية إلي يوم القيامة.
إنّ إعجاز القرآن لا ينحصر في فصاحته وبلاغته، لانّ القرآن لم ينزل للناطقين بالعربيّة فحسب، بل نزل لعموم العالم. فكيف ـوالحال هذهـ يمكن اعتبار فصاحته وبلاغته كلّ إعجازه؟ كما أنـّنا لا نجد آية أو رواية تشير إلي أنّ القرآن تحدّي الناس أن يأتوا بمثله من هذه الوجوه، بل إنّ إعجاز القرآن هو هذه المعاني والحقائق الواقعة تحت مدلول الالفاظ، التي تتكفّل بهداية المجتمعات البشريّة جميعها، أبيضها وأسودها، وحضريّها وبدويّها، وعالِمها وعامّيها في أيّ نقطة من أرجاء العالم إلي يوم القيامة، وتتعهّد بإراءة الطريق والإيصال إلي مقام التوحيد للحضرة الاحديّة عزّ وجلّ، هذا من جهة إعجاز القرآن الكريم نفسه.
الرجوع الي الفهرس
حفظ القرآن إحدي معجزات رسول الله
وأمّا من جهة إعجاز وجود رسول الله فقد خطر في بالي مطلب جدير بالتأمّل، وهو مطلب لم يسبق أن سمعته من أحد أو شاهدته في كتاب.
أنـّنا نعلم أنّ الرسول الاكرم صلّي الله علیه وآله كان حافظاً للقرآن بلازيادة أو نقصان لحرف واحد، وكان يقرأ منه في الصلوات الواجبة والنوافل وخاصّة في ركعات صلاة الليل. وجاء في الرواية أنـّه صلواتالله علیه وآله كان يقرأ المسبّحات الخمس (أي: سور الحديد، والحشر، والصفّ، والجمعة والتغابن) كلّ ليلة قبل أن يرقد.
وحين سئل عن سبب قراءته لهذه السور أجاب: أنّ في كلّ سورة منهنّ آية أفضل من ألف آية. وعلی هذا الاساس فقد ورد في الرواية أنّ من يقرأ المسـبّحات ليـلاً قبل أن يرقد، فإنّه لا يمـوت حتّي يـري الرسولالاكرم فيُريه محلّه ومقامه في الجنّة.
ولقد كان حفظ القرآن بالنسبة إلي رسول الله معجزة، لانـّه يختلف عن حفظ سائر الناس. ذلك أنـّه صلوات الله علیه وآله لم يعرف الكتابة؛ وكان نفسه لا يكتب الآيات التي توحي إليه، ولا شكّ ولا ترديد في هذا الامر أبداً. إذ لم يُشاهِد أحد رسول الله طول حياته وهو يُمسِك القلم والورق، فضلاً عن أن يكتب آية واحدة. بل كان يرجع إلي كتّاب الوحي فيكتبون له، وكان رسول الله يقرأ علیهم فيكتبون.
الرجوع الي الفهرس
رسول الله يكرّر عند الحاجة عبارات نطق بها قبل سنوات عديدة
وهذه المسألة تثير العجب، إذ إنّ رسول الله مع أنـّه لم يعرف الكتابة، ولميكتب الآيات، إلاّ أنـّه كان يقرأ هذه السور وسائر سور القرآن بعد نزولها، وبعد مرور الشهور والسنين، بل بعد عشرين سنة أو أكثر، دون أن يزيد أو ينقص كلمة واحدة. فما أقواها من ذاكرة! أَوَ يمكن أن نسمّي أُصولاً هذا الضرب من الحفظ قوّة الذاكرة؟
وهل شوهد أمر مثل هذا علی مرّ تأريخ البشريّة؟ أيمكن لامهر الخطباء وأقواهم حفظاً، إذا لم يسجّل خطابه علی الورق أو شريط التسجيل، أن يُعيد لدقيقة واحدة عين عباراته التي أنشأها خلال الخطاب أو بعده دون أن يزيد أو ينقص أو يقدّم أو يؤخّر منها حرفاً واحداً؟
لقد كان المسلمون يومئذٍ يقرأون آيات القرآن عند رسول الله، فكان صلوات الله علیه وآله يصحّح أخطاءهم، حتّي لا تصبح الواو فاءً أو الفاء واواً، ولكي لا تُقرأ كلمة (ويعلمون) (فيعلمون).
وهو أمر عجيب في غاية الغرابة كلّما زاد التأمّل في أطرافه وجوانبه صار إعجازه أكثر شهوداً وجلاءً.
وقد عرضتُ هذه المسألة علی أُستاذي الكريم: العالم الفذّ والفقيه النبيل آية الله الاُستاذ العلاّمة الطباطبائيّ، فقال: بلي، إنّ الامر علی ما تقولون. إذ كان رسول الله يقرأ آيات القرآن دون أن يقدّم أو يؤخّر فيها حرفاً واحداً، حتّي أنـّه كان يُعيد في مواقع الحاجة عين العبارات التي كان قد قالها قبل سنوات عديدة، وكأنـّه يقولها الساعة.
وعندما دنا أجله صلوات الله علیه وآله كانت فاطمة سلام الله علیها في غاية الحزن والتأثّر، تذرف الدموع وتندب (وا سوأتاه وا سوأة أبي)، فقال لها رسول الله صلّي الله علیه وآله: يا فاطمة... قولي كما قال أبوك علی إبراهيم: الْقَلْبُ يَحْـزَنُ، وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ حَقّاً، وَإِنّا بِكَ يَاإِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.
فانظروا إلي رسول الله صلّي الله علیه وآله في سكرات الموت وقد غلب علیه المرض وتبدّلت حاله، كيف يعيد في تلك الحال الشديدة الصعبة عين العبارة التي قالها قبل سنوات عند موت إبراهيم، وهي معجزة عجيبة. أجل، هذه هي الإحاطة بالملكوت والسيطرة علی عالم المعني، ولاعلاقة للامر بقوّة الذاكرة والمسائل المادّيّة ـ انتهي كلام الاُستاذ دام ظلّه.
وأقول هنا: شتّان بين هذا الكلام الذي يحكي عن متن الواقع وبين قول عُمر حين طلب رسول الله دواة وقرطاساً ليكتب للناس كتاباً لايضلّوا بعده أبداً فقال: قَد غلبه الوجع، إنّ الرجل ليهجر!
الرجوع الي الفهرس
قصّة أصحاب الكهف من منظور قرآنيّ
من جملة الآيات الإلهيّة الدالّة علی المعاد، قصّة أصحاب الكهف والرقيم. وهي من القصص المشهورة بين أهل الملل والنحل والتواريخ. وقد أورد القرآن الكريم تفصيلها بالقدر الذي يكون شاهداً علی مسألة المعاد، حيث وردت جملة هذه الآيات في السورة 18: الكهف، اعتباراً من الآية السادسة إلي الآية السادسة والعشرين. يقول تعالي في بيان هذه القصّة التي استغرق أصحابها في نوم عميق امتدّ ثلاثمائة وتسع سنين، ثمّ استيقظوا:
وَكَذَ ' لِكَ أَعْثَرْنَا علیهِمْ لَيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا. [19]
ويقول تعالي في بدايتها:
فَلَعَلَّكَ بَـ'خِعٌ نَّفْسَكَ علی'´ ءَاثَـ'رِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـ'ذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا* إِنَّا جَعَلْنَا مَا علی الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيـُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجَـ'عِلُونَ مَا علیهَا صَعِيدًا جُرُزًا. [20]
ثمّ يشرع بذكر متن قصّة أصحاب الكهف ويقول:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـ'بَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن ءَايَـ'تِنَا عَجَبًا. [21]
ثمّ يشرح هذه القصّة: لقد كان أصحاب الكهف والرقيم فتية عاشوا وترعوعوا في مجتمع وثنيّ فشت فيه عبادة الاوثان والاصنام. وحين أمكن دين التوحيد طريقه إلي ذلك المجتمع، آمن به هؤلاء الفتية وعبدوا الله خالق السماوات والارض وحده، وتمرّدوا علی عبادة الطواغيت.
إلاّ أنّ الناس ضيّقوا علیهم في المعاملة وتشدّدوا معهم وعذّبوهم ليُجبروهم علی ترك دين التوحيد والإعراض عن عبادة الإله الواحد والعودة إلي عبادة الاوثان، فكانوا يقتلون من كان يصرّ علی مخالفتهم بأبشع صورة.
وكان هـؤلاء الفتية قد آمنوا بالله عن هُـدي وبصيرة، فزادهم الله هدي، وفتح لهم أبواب العلم والمعرفة مُشرعة في وجوههم، وكشف لهم الانوار الإلهيّة بحيث صاروا من أصحاب اليقين، وجعل قلوبهم مرتبطة به سبحانه بحيث ما عادت تخاف موجوداً سواه، وبحيث إنّ الحوادث المؤلمة والمصائب الشديدة لم تكن تخيفهم أو تفزعهم.
ولقد كانوا يعلمون أنـّهم إن عاشوا في مجتمع جاهليّ مستكبر كذلك المجتمع، فلن يكون أمامهم من مناص إلاّ السير بسيرة أعضائه، وعدم التفوّه بالحقّ وعدم سلوك شريعة الحقّ. ولمّا كانوا قد اهتدوا إلي سبيل التوحيد وهجروا الشرك، فقد علموا أنّ السبيل الوحيد للنجاة يتمثّل في الاعتزال عن ذلك المجتمع الجاهليّ. لذا فقد امتنعوا عن مسايرة ذلك المجتمع المشرك الجاهليّ ونهضوا بقلوب قويّة وإيمان راسخ لا يُثنيهم شيء لاءعلان توحيد الحقّ تعالي وتقديسه، فأصحروا جهاراً في ردّهم علی القوم قائلين:
رَبـُّنَا رَبُّ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ لَن نَّدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَـ'هًا لَقَدْ قُلْنآ إِذًا شَطَطًا* هَـ'´ؤلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ علیهِم بِسُلْطَـ'نٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي' علی اللَهِ كَذِبًا. [22]
ثمّ قالوا فيما بينهم:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَهَ فَأْوُ و ´ا إِلَي الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّـِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّـِيْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا. [23]
وهكذا دخلوا الكهف فجلسوا في متّسع منه وبسط كلبهم ذراعية في وصيد الكهف، وكانوا يعلمون حقّ العلم أنّ قومهم لو علموا بمكانهم لعذّبوهم وقتلوهم، لذا دعوا ربّهم تعالي:
فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّيْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا علی'´ ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا. [24]
فناموا ونام كلبهم معهم، ناموا مدّة ثلاثمائة وتسع سنين قمريّة تعادل ثلاثمائة سنة شمسيّة: ثَلَـ'ثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا. [25]
إلي أن يقول:
وَكَذَ ' لِكَ بَعَثْنَـ'هُمْ لِيَتَسآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبـُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ. [26]
ثمّ يستمرّ القرآن الكريم في القصّة حتّي يصل إلي قوله:
وَكَذَ ' لِكَ أَعْثَرْنَا علیهِمْ لِيَعْلَمُو´ا أَنَّ وَعْدَ اللَهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَرَيْبَ فِيهَا؟ [27]
ويستنتج منه أنّ قصّة أصحاب الكهف واختفائهم فيه، ونومهم ثلاثمائة وتسع سنين ثمّ استيقاظهم بعد هذه المدّة الطويلة، والمجيء إلي المدينة لشراء الطعام واطّلاع الناس علی هذه القصّة كان بأجمعه من أجل إعلان المعاد وكيفيّته وعدم استبعاده. وقد ذكر شتّي أصحاب التفاسير والروايات خصائص القصّة، ونورد هنا تفصيلها وفقاً للرواية الواردة في تفسير علیّ بن إبراهيم القمّيّ:
الرجوع الي الفهرس
قصّة أصحاب الكهف وفق رواية وتفسير علیّ بن إبراهيم القمّيّ
يقول علیّ بن إبراهيم: حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (الصادق) علیه السلام، قال: كان سبب نزولها، يعني سورة الكهف، أنّ قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلي نجران، النضربن الحارثبن كلدة، وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهميّ ليتعلّموا من اليهود والنصاري مسائل يسألونها رسول الله صلّي الله علیه وآله، فخرجوا إلي نجران إلي علماء اليهود فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فإن أجابكم فيها علی ما عندنا فهو صادق، ثمّ سلوه عن مسألة واحدة فإن ادّعي علمها فهو كاذب. قالوا: وما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الاوّل فخرجوا وغابوا وناموا، كم بقوا في نومهم حتّي انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأيّ شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصّتهم؟ واسألوه عن موسي حين أمره الله أن يتبع العالِم ويتعلّم منه، مَن هو وكيف تبعه وما كان قصّته معه؟ واسألوه عن طايف طاف من مغرب الشمس ومطلعها حتّي بلغ سدّ يأجوج ومأجوج، مَن هو وكيف كان قصّته؟ ثمّ أملوا علیهم أخبار هذه الثلاث مسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا علیكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متي تقوم الساعة؟
فإن ادّعي علمها فهو كاذب، لانّ قيام الساعة لا يعلمها إلاّ الله تعالي. فرجعوا إلي مكّة واجتمعوا إلي أبي طالب علیه السلام فقالوا: ياأباطالب! إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه، ونحن نسأله عن مسائل فإن أجـابنا عنها علمنا أنـّه صـادق وإن لم يجبنا علمنا أنـّه كاذب. فقال أبوطالب: سلوه عمّا بدا لكم. فسألوه عن الثلاث مسائل، فقال رسولالله صلّيالله علیه وآله: غداً أخبركم (علی أمل أن يأتي الامين جبرئيل بالإجابة عنها من جهة ذات الحقّ تعالي) ولم يستثن.
فاحتبس الوحي علیه أربعين يوماً حتّي اغتمّ النبيّ صلّي الله علیه وآله وشكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزأوا وآذوا، وحزن أبو طالب. فلمّا كان بعد أربعين يوماً نزل علیه ] جبرئيل [ بسورة الكهف، فقال رسول الله صلّي الله علیه وآله: يا جبرئيل، لقد أبطأتَ! فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلاّ بإذن الله. فأنزل:
أَمْ حَسِبْتَ (يا محمّد) أَنَّ أَصْحَـ'بَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن ءَايَـ'تِنَا عَجَبًا.
ثمّ قصّ قصّتهم فقال:
إِذْ أَوَي الْفِتْيَةُ إِلَي الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبُّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّيْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
فقال الصادق علیه السلام: إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عاتٍ وكان يدعو أهل مملكته إلي عبادة الاصنام، فمن لم يُجبْه قَتَلَه، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّ وجلّ. ووكّل الملكُ بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحداً يخرج حتّي يسجد للاصنام، فخرج هؤلاء بحيلة الصيد، وذلك أنـّهم مرّوا براعٍ في طريقهم فدعوه إلي أمرهم فلم يجبهم، وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم.
فقال الصادق علیه السلام: فلا يدخل الجنّة من البهائم إلاّ ثلاثة: حمار بلعم بن باعوراء وذئب يوسف [28] وكلب أصحاب الكهف.
فخرج أصحاب الكهف من المدينة بحيلة الصيد هرباً من دين ذلك الملك، فلمّا أمسوا دخلوا ذلك الكهف والكلب معهم فألقي الله علیهم النعاس كما قال الله تعالي: فَضَرَبْنَا علی'´ ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، فناموا حتّي أهلك الله ذلك الملك وأهل مملكته، وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون، ثمّ انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا ها هنا؟ فنظروا إلي الشمس قد ارتفعت، فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم.
ثمّ قالوا لواحد منهم: خذ هذا الورق وادخل المدينة متنكّراً لايعرفوك فاشتر لنا طعاماً؛ فإنّهم إن علموا بنا وعرفونا يقتلونا أو يردّونا في دينهم.
فجاء ذلك الرجل فرأي مدينة بخلاف التي عهدها ورأي قوماً بخلاف أُولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: من أنت ومن أين جئت؟ فأخبرهم، فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتّي وقفوا علی باب الكهف وأقبلوا يتطلّعون فيه. فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة وسادسهم كلبهم. وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عزّ وجلّ بحجاب من الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول علیهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل إليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب دقيانوس شُعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنـّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل وأنـّهم آية للناس، فبكوا وسألوا الله تعالي أن يعيدهم إلي مضاجعهم نائمين كما كانوا.
ثمّ قال الملك: ينبغي أن نبني ها هنا مسجداً ونزوره فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كلّ سنة نقلتان، ينامون ستّة أشهر علی جنوبهم اليمني وستّة أشهر علی جنوبهم اليسري والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف.[29]
وقال العلاّمة الطباطبائيّ بعد نقل هذه الرواية: والرواية من أوضح روايات القصّة متناً وأسلمها من التشوّش، وهي مع ذلك تتضمّن أنّ الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا علی باب الكهف بعد انتباه الفتية، وهو خلاف ظاهر الآية. وتتضمّن أنّ أصحاب الكهف لم يموتوا ثانية بل عادوا إلي نومتهم وكذلك كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، وأنّ لهم في كلّ سنة تقلّبين من اليمين إلي اليسار وبالعكس، وأنـّهم بعدُ علی هيئتهم، ولا كهف معهوداً علی وجه الارض وفيه قوم نيام علی هذه الصفة. [30]
وننهي هذه القصّة بذكر عدّة أُمور:
الرجوع الي الفهرس
أصحاب الكهف والرقيم جماعة واحدة
1 ـ الكهف: هو المغارة فيالجبل إلاّ أنـّه أوسع منها بحيث يمكن للاءنسان والحيوان أن يدخلاه ويعيشا فيه براحة. والرقيم بمعني المرقوم، كالجريح بمعني المجروح.
وقد دُعي أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم لانّ أسماءهم قد كُتبت ورُقّمت في لوح نحاسيّ أو ذهبيّ نُصِبَ في خزانة الملك. أو لانـّها قد رقّمت وحُفرت في داخل الغار. وعلیه فإنّ أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم هم جماعة واحدة.
أمّا ما ورد في بعض الروايات الضعيفة الدالّة علی أنّ أصحاب الرقيم هم غير أصحاب الكهف، والتي ذكرت أن ثلاثة من المؤمنين كانوا قد ساروا في الصحراء فألجأهم المطر والطوفان إلي غار، وسقطتّ صخرة من الجبل فسدّت مدخل الغار تماماً. فدعوا الله تعالي وذكروه بالاعمال الصالحة التي كانوا قد فعلوها، فتحرّكت الصخرة ببركة دعائهم وانزاح ثلثها فبان ثلث من باب الغار؛ فلا يمكن قبوله، إذ يستبعد من سياق الآيات القرآنيّة المباركة أن تذكر قصّتين مختلفتين فتشرح إحداهما مفصّلة وتُعرِض عن ذكر الثانية كلّيّاً.
وقال البعض: إنّ الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو اسم الصحراء التي يقع الجبل فيها، أو اسم البلد الذي خرجوا منه إلي الكهف، أو اسم الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، بَيدَ أنـّه لا دليل علی هذه الادّعاءات. والدليل قائم علی أنّ الرقيم بمعني الكتابة والخطّ وقد عرفوا بأصحاب الرقيم لانّ أسماءهم قد كتُبت.
الرجوع الي الفهرس
عدد أصحاب الكهف وأسماؤهم
2 ـ عدد أصحاب الكهف:
ورد عددهم في القرآن الكريم في قوله تعالي:
سَيَقُولُونَ ثَلَـ'ثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي´ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَـ'هِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا. [31]
ويستشفّ العلاّمة الطباطبائيّ مدّ ظلّه أنّ عددهم كان سبعة من عدّة جهات:
الجهة الاُولي: أنّ القرآن الكريم حين يذكر القولين الاوّلين فإنّه يعقّب علیهما بعبارة: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، والرجم هو الرمي بالحجارة، أي كالرامي بالحجر دونما هدف، كناية عن أنـّهما قول بغير علم ولا دليل. إلاّ أنـّه حين يقول وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فإ